بنك مصر
بنك مصر
البنك الاهلى المصرى
2b7dd046-8b2b-408c-8c9e-48604659ffe0
البنك الاهلى المصرى
البنك الاهلى المصرى
منوعات

القصيدة الحرة: شرودٌ عن السلطة الأكاديمية

 

دكتورة فادية كنهوش-جامعة حلب- سوريا

الكتابة، مهما كان تصنيفها، هي مسارٌ وليس محطة وصول. ولن تكون محطة “وصولٍ” أبداً. قد نقول أن الانطلاق حصل مع تدوين أول كلمة في تاريخ الكلمة؛ ولكنه حصل قبل ذلك بكثير:حصل مع تشكّل “مفهوم الكتابة” ذاته في الوعي الإنساني. وكل ما يُكتب هو نوع من الاستمرارية لِما كُتِبَ سابقاً، أو نوع من “المرافقة” له ولكل ما يُحَضَّر له من كتابة. وكما قال Ludwig Wittgenstein : ” نحن، في اللحظة الحاضرة، نقاتل ضد توجهٍ واحد. ولكن هذا التوجه سيختفي، ستتفوق عليه توجهاتٌ أخرى. في تلك اللحظة لن نفهم المبررات التي سقناها لدحض هذا التوجه. ولن ندرك لماذا كان علينا قول كل ذلك.”

نعم فالنظرية (بالمطلق) ليست ثابتة رغم سلطتها الممتدة الى جيل أو أجيال من القراء والكتّاب، إلا أنها تتطور بفعل المفكرين واختلاف توجهاتهم. والتجربة التي هي معقل الفردية كما الفرادانية، هي بفعل طبيعتها متغيّرة ومختلفة من فردٍ إلى آخر. ولا نستطيع بطبيعة الحال المقارنة بين العلاقة التي تؤدي الى نتائج ثابتة نستطيع تعميمها (في سائر العلوم النظرية والتطبيقية والتي يكون إيقاع تطورها بطيءٌ جداً) وبين العلاقة بين النظرية التي مكانها السلطة الأكاديمية (أو الجامعة بتبسيط أكبر) وبين نتاج الكتّاب المرتبط بفردانية وتطور الفرد الكاتب والتي هي متمثلة بـ “تملُّك الفرد للغة وأدواتها” وهو ما أسميه “اللامكان”… فقد يبدو أن السلطة الأكاديمية بما تفرضه من قواعد وقوانين هي المتحكمة بسيطرة الفرد على أدوات وقوانين الكتابة، وذلك لا ينفي وجود الاستثناءات من الكتّاب المتمردين فكراً ولغةً في كل حين ومكان. وخلال مسيرة الأجيال يكثر عدد الخارجين على القوانين الكلاسيكية – ويشهد تاريخ العلوم الأدبية على ذلك – ليصبحوا هم حاملي وجهة النظر الجديدة، تتوسع وتتوسع وتفرض وجودها كواقع. نعم فالكتابة ليست استثناءً عن مجريات الحياة؛ سيكون هناك دائماَ ما يُكتَب وسيخفف أو يمحو لمعان ما كُتِبَ سابقاً. وسيكون هناك ما يأتي بعده. فالكلمة التي يستخدمها الكاتب كقوة إقناع، ليست ثابتة بمدلولها فهي بتطورها ومسار حياتها تكتسب دلالات جديدة، أو بالأحرى هي تقتحم حقولاً دلاليةً جديدة تَقرُب أو تبعد عن تاريخ الكلمة الدلالي بحسب وجهات النظر والقناعات الجديدة والاكتشافات الجديدة والسياق الذي قد ترتبط به.

وقد يكون ما يحصل الآن مثالاً دقيقاً على ما ذكرته أعلاه. يرفض العديد ، من أنصار الشعر العمودي والتزامه بالوزن والقافية، للتيار الجديد وانتشاره الواسع الذي يستخدم النثر الحر في تشكيل القصيدة والتي حارت التسميات فيها: أهي شعر منثور أم قصيدة نثرية أو القصيدة الحرة وغير ذلك كما يحلو لكلٍّ بتسميته بحسب قناعاته.

في دراسة أجراها إتيان-آلان هوبير عام 1993، “ريفيردي وماكس جاكوب أمام ريمبو: جدلية القصيدة النثرية”، وصف هوبير خصائص قصيدة النثر الحديثة، كما مارسها ريفردي وماكس جاكوب، وحدّد المسارالذي يوصلنا إلى آرثر ريمبو معتبرا إياه “البادئ أو المبادر” لإرساء هذا الشكل الجديد للخلق الأدبي الذي توسّع منظوره إلى قصيدة النثر في أوائل عشرينات القرن الماضي. ومع ترسيخ التيار الرومانسي، ظهرت الحاجة الملحة للحرية التي أدّت الى ولادة نوعٍ جديدٍ تماماً تمثّل بمجموعة قصائد نثرية للشاعر برتراند، سرعان ما تأثر بها بودلير فكتب خمسين قصيدة نثرية صغيرة في ديوانه Spleen de Paris وبعده بعض شعراء القرن العشرين:Claudel, Char, Ponge, Michaux. .

كما نشأ في منتصف القرن التاسع عشر في منطقتنا العربية من عُرفوا بجماعة “الديوان” مثل محمود العقاد وابراهيم المازني وغيرهما نسبة الى كتاب ألّفه العقاد والمازني وضعا فيه مبادىء جديدة تستند على منطلق أن الشعر “تعبيرٌ عن الذات، وتعميقُ للحياة من خلال النظرة الخاصة إليها، وهو ما يتطلب على الصعيد العملي تحرراً من القوالب الفنية القديمة.”

وتبعتهم حركات متتالية، في المهجر خصوصاً، تدعو الى تجديد الشعر، إلى أن جاءت نازك الملائكة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين فنشرت قصيدتها “الكوليرا” 1947. لم تهمل نازك بحور الشعر القديم ولكنها كانت تطمح الى جعلها ملائمة للعصر، فاستخدمت كما السياب بعض البحور القديمة مستندة الى وحدة التفعيلة ولكن مع حرية تنوّع القوافي. وفي نفس السنة والشهر أصدر بدر شاكر السياب ديوانه “أزهار ذابلة” الذي احتوى على قصيدة واحدة حرّة. كما فعل البياتي بعده إلى أن صارت أسس الشعر الحديث واضحة ومتطورة مع المتجددين من الشعراء، والذي كان يوسف الخال – في فترتها – أكثرهم تمسكاً بفكرة تغيير الشعر العربي من جذوره، حيث كان يعتبر أن الشعر هو سبيلٌ للتأمل لا للخطابة. ومن الأسس العشرة التي وضعها يوسف الخال لتناول الشعر تركيزه على “تطوير إيقاع الشعر العربي على ضوء المضامين الجديدة، فليس للأوزان القديمة أي قداسة” .

يتحدث Hubert بوضوح عن عدم استقرار هذا النوع من الشعر، والذي يؤثر على أشكال مماثلة، مثل النثر الشعري فيقول أن حدوده العامة غير ثابتة- وقد اقول أنها مطاطة- أكثر من أن تكون نوعا أدبياً مستقلاً. ستستفيد قصيدة النثر من اعتبارها مجموعة من الأشكال الأدبية القصيرة التي تنتمي إلى فضاءٍ انتقالي يتم فيه إعادة تعريف العلاقات بين النثر والشعر، ونحت مفاهيم أخرى للقصيدة؛ إذ تخلو قصيدة النثر بطبيعتها من العلامات الشعرية الخارجية التي لا جدال فيها، وتجاور “فن النثر”.

فعبارة “الشعر المنثور” هي عبارة متناقضة من حيث بنيتها فهي تجمع كلمتين تنتمي إحداهما الى عالم التنظيم “أي ترتكز على قيود الوزن والقافية والإيقاع”.. أما الثانية فتنتمي الى عالم الكتابة دون قيود سوى “صحة اللغة ” إذن الى عالم ” الحرية”. ومع ذلك اندمجت هاتين الكلمتين لتخلق نوعاً جديداً. فكان أفضل من عرّف هذا النوع الشاعر بودلير حين قال: “النثر الشعري الموسيقي، بدون قافية وبدون إيقاع، مرن بدرجة كافية للتكيف مع الحركات الغنائية للروح ومع تموجات الخيال وتذبذبات الوعي” . ولا شك أن ما يسمى بقصيدة النثر صار واقعاً ملموساً. ولاينفي اندساس الكثير ممن ليس لديهم الحد الأدنى من مقومات الإبداع ترسيخ واقع وجودها.

وقد حاول الكثيرون البناء على فكرة الإيقاع لإيجاد شرعية لها. الحقيقة أن للقصيدة نثرية إيقاعها الفردي كما أن لكل عمر إيقاعه، ولكل حياة إيقاعها، بينما الشعر العمودي يتصف بالإيقاع الناتج عن تفعيلة مشتركة بين كل الشعراء العموديين. فإيقاع القصيدة النثرية هو “لغةٌ” عملية ولكن لمرة وحيدة، وهو “فريدٌ” في كل قصيدة. لذلك ومن خلال هذه الفردانية فهو من كنه ومعايير العمل الفني أو بالأحرى “الإبداع الفني” الفردي. وهذا ما يعكس بشكل سلبي إيقاع التفعيلة بمعنى أن هذه الرؤية تنفي حيزاً من الإبداع الفردي او لنقل تجعله محدوداً بالفكرة واختيار المفردات التي تخدم تلك الفكرة.

مهما كانت الأشكال التي يتخذها هذا النوع الأدبي، هناك دائماً فيه شيء مغامر ومنفتح وغير مكتمل. وقد مارس السرياليون نوع قصيدة النثر المشفّر والمميّز إلى حد ما، ولكن إنتاجهم الأدبي غالباً ما يلعب على خرق الحدود العامة.

فقصيدة النثر لا تطيع قواعد مسبقة مثل الأنواع الثابتة من القصيدة التقليدية، ولكنها تطيع بشكل مؤكد القوانين التي انبثقت تدريجياً عن محاولات عديدة وشكّلت الشروط الحيوية لوجودها، وبات يمكننا أن نرى كائنًا كاملًا يتطور. فسنرى أن المجموعة الكاملة المعقدة من القوانين التي تحكم تنظيم هذا النوع الأدبي موجودة بالفعل في اسمها الذي يبرز الجوهر المتناقض لقصيدة النثر، اتحاد غير عادي، بلا شك، ويتضمن اتحاد الأضداد: النثر والشعر، الحرية والصرامة، الفوضى المدمّرة والفن المنظّم. ومن هنا تناقضها الداخلي والمثمر الذي هو وراء ديناميكيتها. يفضّل الشاعر أن يضع نفسه في صالح الاستخدام التعاوني لهذين الشكلين، بحيث يوفر المسار الأفقي للنثر منبراً لرحلات الشعر الحر. فتصبح الكتابة في مجال القصيدة النثرية دخولاً أكثر تعقيداً، وربما أكثر خداعاً في الطبيعة الخاصة للغة المرء الحميمية لجعلها محكمة الإنغلاق، ولإثبات علاقة الشاعر بذاته في اللغة وفقاً لهذين المستويين “النثر والشعر”، مع التأكيد على هذا الاختلاف. فقد خلقت إرادة “الحداثة” أو” المعاصرة” أو “التحرر من القديم” شيئا من الارتباك في مضماري الشعر والنثر خصوصاً. وربما يكون السؤال الذي قد تسمح لنا إجابته بالتسمية “الصحيحة” هو أولاً: ما هو تعريف الشعر؟ وهنا طبعاً لن نلجأ إلى كل التعريفات الكلاسيكية المعتمدة على معايير الوزن والقافية وغيرها.. لأن ذلك سيعيدنا الى نقطة الصفر.. ولكن إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن “الشعر” هو إحدى طرائق عمل اللغة، وبطبيعة حقيقته هذه أو طريقة وجوده، علينا أن نعترف أنه أسرع تطوراً من المفهوم ككلمة ودلالاتها المختزنة عبر مسارها الزمني. ويصبح الشعر “أكثر” من ماضٍ في اللغة و”أكثر” مما لم يختزنه عبر مساره. ويجبرنا بذلك على اختراق مظهره الخاص المتعارف عليه والتصنيف الذي اخْتُصَّ به. ربما يجب أن يكون هنا السؤال أكثر “إنسانية” بمعنى أن نُعرّف الشعر من خلال ردّة فعل قارئه أي متلقيه أولاً ثم من خلال محفزات كاتبه أي “الشاعر”..

 

مهمة الشعر أن يؤثر: أن يثير انفعالات معينة يقصدها الشاعر (يُفترض أن الشاعر شخصٌ نضج معرفياً؛ معرفة عميقة للعالم المحيط به وللطبيعة الإنسانية ولديه القدرة اللغوية لأن يعبّر عن ذلك بطريقة غير اعتيادية) وإن لم يفعل فهو لا يستحق صفة الشعر. وأستعملُ هنا مصطلح “صفة”؛ لذلك قد نستطيع إلحاق هذه الصفة بالنثر الذي هو “نوع”، وبذلك نلغي التضاد الناشئ عن جمع تلك المفردتين…

في اللغة اليونانية تعني كلمة “Poiein خلق، إبداع” بمعنى أن النص الشعري هو خلق جديد للمعنى حتى ولو كانت الفكرة أي المعنى متداول من قبل أكثر من مبدع. فكلٌّ يخلق عالمه الشعري الخاص به وبأسلوبه وبحقول دلالاته وهكذا عندما نقرأ نصاً نستطيع أن نرجعه إلى مبدع معيّن كأن نقول هذا من إبداع الجواهري أو الفيتوري ..أو..أو..

تقول سوزان برنار (1923 – 2007) في مقدمة كتابها “القصيدة النثرية من بودلير إلى يومنا هذا”: “من صعوبة مسألة قصيدة النثر (وهنا يكمن عامل التشويق فيها) أن ولا أي شكل من أشكال الشعر التقليدي الذي حاول منذ قرن أن يُطوّع اللغة لقواعد جديدة، لم يسلط الضوء على مفهوم الشعر بحد ذاته. فمن الصعب في القصيدة الحرّة أن نكتشف القوانين التي يخضع لها – فلن نتكلم بعد الآن عن “قواعد”- مع ذلك هذه القوانين موجودة مع أنها قد تتغير من شاعر الى آخر…”. وقد أشار أنسي الحاج إلى أنَّ النظم ليس هو الذي يميز الشعر عن النثر خلال حديثه عن قصيدة النثر، كما ورد في مجلة “شعر” حول مفهوم قصيدة النثر أنَّ قصيدة النثر شعرٌ، وليست نثراً جميلاً، بل هي قصيدة مكتملة وكائنٌ حي مستقل، مادتها النثر وغايتها الشعر، والنثر المادة التكوينية فيها، لذلك ألحق باسمها كلمة النثر لتبيان منشأها، وسمِّيَت قصيدةً للتأكيد على أنَّ النثر يمكن أن يكون شعراً دون التزامه ببحور الشعر والضوابط التقليدية…” . ولكن مع ذلك تبقى التسمية مثيرة للجدل.

لكن على الأقل هناك إجماعٌ على أنها ذات إيقاع ومؤثرات صوتية أوضح مما يظهر في النثر، وهي غنية بالصور الفنية، تعتمد جمالية العبارة، كما أنها تقوم على الموسيقى الداخلية التي تنشأ بين الكلمات في النص، تتصف بالايجاز في غالب الأحيان، تتميّز بوحدة الموضوع والبساطة، لا تكلّف ولا بهلوانيات في التراكيب والمحسنات، ولا تلتزم ببحور الشعر التقليدي ولا بضوابطه. لا ترتبط بالزمن فهي التعبير عن حرية الشاعر ومن أكثر من الشاعر يحتاج الحرية كوجود وإثبات للذات. تصفهم سارة برنار فتقول: “هؤلاء الشعراء المتحمسون والمعذَّبون، وكلهم مستهجنون للفن ومولعون بفنهم أكثر من غيرهم، وأكثر التزاماً بالحالة الإنسانية، الذين يطلق عليهم “شعراء النثر”. وخير ما قرأت من دفاع عن هذا النوع من الشعر المقولة التالية للشاعر الدكتور محمود حسن “وليكن دفاع ما يسمى بقصيدة النثر عن وجودها؛ نابعاً من قيمتها ولغتها ودلالاتها وعصرنتها وملامستها للواقع وللمتلقي”. وأقول كقارئة ومتذوقة: إبحث عن الجمال في هذا العالم ولا تبحث عن الحقيقة.. ولعّل قصيدة أدونيس التالية ليست فقط نموذجاً عن القصيدة الحرة بل تعبيراً عن لسان حال كل من كاتبها وقارئها:

“في عَتْمة الأشياء في سرِّها

أحبُّ أن أبقى

أحبُّ أن أسْتبطنَ الخَلْقا

أحبُّ أن أشردَ كالظنِّ

كغربة الفنِّ

كالمبهم الغُفْلِ وغير الأكيدْ

أولَدُ في كلِّ غدٍ من جديدْ”

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى