بنك مصر
بنك مصر
البنك الاهلى المصرى
2b7dd046-8b2b-408c-8c9e-48604659ffe0
البنك الاهلى المصرى
البنك الاهلى المصرى
منوعات

القلم والمشرط | رسالة من نافذة العناية المركزة

بقلم أحمد الوحش

ارتدى أحمد ذلك الشاب العشريني كمامة، قد ظهر على وجهه علامات القلق، ووقف ناظراً للأعلى يطلب من الله التوفيق، ثم ارتدى بذلة خاصة، ووضع على وجهه درعاً شفافاً من البلاستيك، انه طبيب شاب خرج للجهاد في سبيل الله ضد عدوٍ مجهولٍ، عدونا اليوم لا يرى بالعين المجردة، فيروس يتسلل خلسةً وغدراً إلى جسد الإنسان، ويحارب خلايا المناعة التي أرهقتها المقاومة، تتساقط الخطوط الدفاعية يوماً بعد يوم، حرب ليست تقليدية…

شاب يعشق والديه لكنه لم يتردد لحظة في الإستجابة للواجب الوطني، نعم يتملكه الخوف لأنه بشر، يعلم جيداً أن الموت البطئ هو خوفنا الأكبر، يتمتم بآيات من القرآن الكريم؛ ليُهَدُئ من روعه، ما هي إلا لحظات ويخرج من غرفة التعقيم؛ لينضم لميدان المعركة بجوار أبطال من كبار الأطباء -لطالما حلم ان يقف يوماً بجوارهم- عمل طبيبنا الشاب في الحجر الصحي بمدينة كفر الزيات، وكان مسئولاً عن مجموعة من المرضى المصابين بكورونا، وكان بينهم إياد طفل في التاسعة من العمر، والذي بدى على وجهه علامات المرض، وجهه شاحب، سعاله جاف، تتأرجح حرارته بين ٣٨,٥ و ٣٩ درجة…

مسح د/أحمد على وجه إياد -كالأب الحنون- قائلاً “يا إياد ايه رأيك نبقى أصحاب؟” فأومأ إياد رأسه موافقاً وابتسم، وأعطاه الطبيب الباراسيتامول -خافض الحرارة- ثم غط إياد في نوم عميق فقد اطمأن أن طبيبنا يرعاه، وجلس الطبيب ناظراً إلى ذلك الوجه النائم البرئ، تمتزج بداخله معاني الإنسانية مع شراسة المعارك الطبية، ثم غادر الطبيب للإطمئنان على باقي المرضى…

في الصباح الباكر أيقظت شقشقة العصافير صديقنا إياد، ورافق فتحه لعينيه صوت صرير باب الغرفة، فابتسم لأنه يعلم أن صاحب تلك اليد الحنونة قد عاد؛ للإهتمام به.
وتفاجئ إياد أن الطبيب يحمل علبة مغلفة كأنها هدية، وطلب من إياد اغلاق عينيه، وحين فتح إياد عينيه تفاجئ بلعبة الكترونية يهديها إليه الطبيب، ففرح إياد بشدة لكن رافق ذلك الفرح وهن أشد، إن أعراض المرض تزداد، فإياد في يومه التاسع من الإصابة، تناول الدواء، وجلس الطبيب بجواره بضع دقائق يطمئنه كعادته ويلعب معه، ثم احتضنه قبل الخروج ووعده بالعودة في الموعد التالي للدواء.

مر يومان وإياد في انتظار صديقه الجديد الذي لم يأتي، لقد كلفوا طبيباً آخر يدعى محمود لعلاجه، والذي لم يكن أقل حناناً من الطبيب أحمد، لكن كان إياد قد اعتاد التعامل مع صديقه الأول، ولم يخبره أحد أين هو ولماذا لم يأتي كما وعد.
في اليوم العشرين طلب الطبيب محمود من إياد مرافقته؛ لعمل بعض التحاليل للاطمئنان، لقد تحولت النتيجة الإيجابية إلى سلبية، فرح الجميع وأخبروا إياداً أنه سيخرج قريباً، لكن لم يشغل تفكير الصغير إلا ذلك الصديق الغائب، وبعد يومين تم تكرار التحاليل للتأكد من سالبية النتيجة، وكانت البشرى السارة أن الصغير سوف يغادر الحجر؛ ليعود إلى أحضان أمه وأبيه غداً.

كانت فرحة إياد بالعودة إلى المنزل لا تزيد عن حزنه لغياب صديقه الحنون، سأل إياد الممرضة أسماء “فين دكتور أحمد؟” فنظرت الممرضة بذهول ولم تستطع الرد وهمت بالمغادرة، لكن أوقفها بكاء هذا البرئ، لم تتمالك نفسها وأخذت تهدئ من روعه قائلةً له “اطمن الدكتور أحمد هيكون بخير ياحبيبي” فقال لها إياد “لو سمحتي يا طنط قوليلي الحقيقة” أخبرته الممرضة أن الطبيب أحمد في العناية المركزة بعد التأكد من إصابته بالمرض، وأن حالته حرجة جداً، فطلب إياد أن يراه ليودعه، وعدته الممرضة بإبلاغ الأطباء عن طلبه وغادرت.

في صباح اليوم التالي أتى الطبيب محمود لتوديع إياد، وأخبره أنه سيسمح له برؤية الطبيب أحمد الراقد في غرفة العناية المركزة لكنه لن يستطيع دخول الغرفة، وقف إياد ينظر من نافذة باب غرفة العناية المركزة، وتلاقت عيناه مع تلك العين الحنونة التي كانت دفئاً في وحشة المرض، ابتسم الطبيب المنهك ورفع يديه كأنه يحاول القاء السلام، لكن سقطت يداه الواهنتين، فبكى إياد ولم يتمالك نفسه وغادر المكان.

عاد إياد إلى أحضان أمه الدافئة، وظل يحكي لوالديه عن الطبيب أحمد والأطباء الذين لم يتركوه لحظة، وعاملوه كالصديق والإبن، حدثته أمه أن كل شئ سيكون على ما يرام، وفي الصباح التالي جلس إياد ووالده يشاهدان أخبار التاسعة، وأعلن المذيع وفاة طبيبنا الشهيد، وأكمل أنه شاب لم يتزوج بعد وكان دائماً يحلم أن يكون أباً، شابٌ ترك عائلته لأجل أناساً لا يعرفهم، لم يكن له أخوة أو أخوات، لقد كان كل ما يملكه والداه في هذه الحياة.

إنه كالملاك في صورة إنسان امتزجت بداخله الرحمة والبسالة، فانهمرت دموع إياد ووالديه، وكانت كل قطرة من مشاعره الصادقة تمثل دعوة إلى الله أن يرحم كل طبيب وممرض ومسعف وعامل، تزلزلت الأرض لبكاء ذلك الطفل، لكن إن مات أحمد فهناك الآلاف من أحمد لا زالوا في معركةٍ تفتك بالطبيب قبل المريض.

مرت السنوات ووقف الطبيب إياد يلقي كلمته أمام مئات الأطباء في مؤتمر طبي عالمي، قد ارتاد كلية الطب وأصبح بعد أربعين عاماً من الدراسة المستمرة استشارياً للأمراض الباطنية، لم يتكلم ذلك الطبيب المشهور لكن تكلم ذلك الطفل في التاسعة من العمر الذي حمل الرسالة؛ ليسرد قصة الطبيب أحمد الذي كان قدوته منذ الصغر، والذي لم ينسى يوماً حنانه، فما أجمل ذلك الطفل المخلص

أوجه سؤالي لك عزيزي القارئ، إن تعلم الطفل إياد احترام الطبيب، حينما لم يرافقه أهله إلى الحجر الصحي، وترك د/أحمد أهله مضحياً بحياته؛ ليقف د/ إياد اليوم في عام ١٤٨٢ه‍ الموافق لعام ٢٠٦٠م، ألا يستحق هؤلاء الأبطال كل الإحترام والتقدير؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى